القطاع الاستشفائي: المرحلة الأخيرة قبل الانهيار الشامل
القطاع الاستشفائي: المرحلة الأخيرة قبل الانهيار الشامل
40% من أسرّة المستشفيات باتت شاغرة. هذا الشغور ليس دليل صحة، بل على القعر الذي وصل إليه القطاع الاستشفائي بسبب الأزمة الاقتصادية – المالية وتبعات انهيار الليرة، ما أدى إلى تسعير الخدمات الطبية، بما فيها المستلزمات والأدوية، بسعر السوق السوداء. يعني هذا أن الحق في الطبابة بات لـ«الأرستقراطيين»، أما الفقراء ومتوسطو الحال فلا يصلون إلى المستشفيات إلّا «على آخر نفس»
يمرّ القطاع الصحي الاستشفائي بأسوأ أزماته، فلا هو قادر على الاستمرار، ولا على التوقف عن تقديم الخدمات الطبية لمرضاه. «الموت السريري» هو التوصيف الأقرب لما تعانيه المراكز والأقسام الأساسية في القطاع، فيما يتخوّف المعنيون فيه من بدء المسير نحو الانهيار الشامل، والذي قد يُترجم بإقفال مراكز صحية ومستشفيات.
الأسباب كثيرة لما آلت إليه الحال، لكن ما يجمعها كلها الأزمة الاقتصادية – المالية التي تتمدّد كخلايا سرطانية. إذ انسحب انهيار القدرة الشرائية لليرة على كل ما يخصّ هذا القطاع، سواء ما يتعلق بأسعار المستلزمات والمعدات الطبية التي بات معظمها يسعّر بالدولار أو بليرة السوق الموازية، أو ما يتعلق بفوارق فواتير الاستشفاء بين تعرفة الصناديق الضامنة وتعرفة الخدمة الطبية في المستشفيات.
عملياً، دخل القطاع الصحي الاستشفائي المرحلة الثانية من الانهيار. الانهيار الملموس. لا أدوية. لا مستلزمات طبية. لا محروقات. لا مخزون لكل من هذه المتطلبات يكفي لمواجهة أي أزمة حادّة على شاكلة انفجارٍ ما أو عودة أزمة «كورونا». يضاف إلى تلك اللائحة التي تُبعد القطاع الاستشفائي عن مواصفات ما كان عليه يوماً كـ«مستشفى الشرق الأوسط»، الهجرة المستمرة للأطباء والممرضات والممرضين ما أدى إلى إلغاء عدد من الخدمات الطبية وصولاً إلى إقفال أقسامٍ علاجية بحالها في بعض المستشفيات.
كل تلك الأسباب أوصلت إلى الخلاصة التالية: 40% من الأسرّة في المستشفيات باتت شاغرة، بعدما خفّ الطلب على الاستشفاء أخيراً. وقد دفع هذا الشغور بعددٍ من المستشفيات إلى إقفال بعض الأقسام التي باتت فارغة كلياً تخفيفاً للتكاليف. تتمة هذه الخلاصة، هو أن الخدمة الاستشفائية تستحيل شيئاً فشيئاً لتصبح للأغنياء فقط. إذ لم يعُد في متناول «الطبقات» الأخرى تحصيل الحق في الطبابة، بعدما أصبحت فروقات الفاتورة الاستشفائية بالملايين. وهو ما يعيد التذكير بتصريح نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة، سليمان هارون، قبل أشهر عندما قال إن المستشفيات لاحقاً لن يدخلها سوى الأغنياء. وها قد أتى «لاحقاً» الذي بات فيه الفقراء يصلون إلى المستشفى «على آخر نفس»، وبعد أن يستنفدوا الطاقة على تحمل الأوجاع. وهو ما حدث بالفعل مؤخراً في أحد المستشفيات الخاصة، حيث توفي شاب في قسم الطوارئ بعد ساعةٍ من وصوله إليه، وقبل أن تنتهي الفحوص الطبية التي بيّنت إصابته بتمزّق في أحد شرايين القلب. انتظر الشاب أسبوعاً كاملاً يتناول المسكنات لتخفيف الأوجاع، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى. لم يعُد هذا مشهداً استثنائياً، إذ يؤكد هارون أن المستشفيات بدأت تشهد «وصول حالات متقدّمة في خطورتها. وهناك مرضى عم يوصلوا على الآخر».
فوارق الفواتير الاستشفائية
لم تعُد عبارة الموت على أبواب المستشفيات مجرّد «كليشيه»، بل واقعاً مع تضافر مجموعة من الأسباب التي حرمت المرضى من حقهم بالتطبيب. من أبرز تلك العوامل الأزمة التي بدأت مع الآلية التي فرضها مصرف لبنان لاستيراد الأدوية والمستلزمات الطبية، وأوصلت إلى احتكار المستوردين والتجار للأدوية والمستلزمات الطبية ومنعها عن المواطنين، أو في أحسن الأحوال بيعها بسعر صرف السوق. دفع ذلك ببعض المستشفيات للعودة إلى استعمال مستلزمات طبية قديمة لم يكن في الحسبان العودة إليها. يشير هارون إلى «استخدام معدّات من 15 سنة مش مستعملينا وكنا حاطينها على جنب»، فيما تطلب مستشفيات أخرى من المرضى «أن يشتروا هم المستلزمات التي يحتاج إليها الطبيب في عمله»، على ما يقول رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي.
المستشفيات التي لا تزال تشتري المستلزمات لتقديم خدماتها، وهي الغالبية، تحمّل الفاتورة الاستشفائية تلك الزيادات، وهو ما انعكس تضخماً في قيمة الفواتير. وعدا عن تحكّم التجار بأسعار المستلزمات أكانت مدعومة أم غير مدعومة، يضيف هارون سبباً آخر يتعلق بالفارق الشاسع بين تعرفة الجهات الضامنة للخدمات الطبية وتعرفتها في المستشفيات، إذ بقيت الأولى على أساس سعر صرف الـ1500 ليرة للدولار الواحد، فيما لامست الأخرى «في كثير من الحالات سعر الصرف في السوق الموازية». وباتت تسعّر الفاتورة بحسب اختلاف أسعار الخدمات المقدمة، وهذا ما يفسّر الفارق بين فاتورة وأخرى. لا يحدّد هارون سعر صرفٍ معيّن لتحديد قيمة الفاتورة، فهي تخضع «لشو منقدّم خدمات وشو بيكونوا عم يعطونا التجار وحسب أي سعر صرف». ولذلك، يحدث أن «تطير» الفروقات في بعض الأحيان لتلامس الثلاثين مليوناً، كما يحصل اليوم مع مرضى السرطان، على ما تقول إحدى المريضات التي تجاهد شهرياً لتأمين بدل جلسة الـ«كيمو».
ولا يبدو أن الأمور ستحلّ قريباً، ليس فقط بسبب جشع التجار، وإنما لعدم التوصل إلى اتفاق بين المستشفيات الخاصة والصناديق والجهات الضامنة. إذ رفض أصحاب المستشفيات عرض الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تعديل التعرفة بنسبة 60%، باعتبار أن الزيادة تخطت تلك القيمة بأشواط، وكذلك الحال مع وزارة الصحة التي لم تصل مفاوضاتها إلى اتفاق مبدئي. وهو ما جعل الإقبال على المستشفيات الحكومية التي تحتاج إلى «إنعاش» يتضاعف بحدود أربع مرات، على ما يؤكد رئيس العناية الطبية في وزارة الصحة الدكتور جوزف الحلو.
علاج بالأدوية البديلة
لا تتوقف الأزمات عند المستلزمات، فأزمة الدواء هي القضية المركزية اليوم. إذ تعاني المستشفيات، كما المواطنين، من النقص في الأدوية، ولا سيما أدوية الأمراض المستعصية. ولئن كان في الإمكان «التسكيج» في بعض الحالات باللجوء إلى استخدام أدوية بديلة، إلا أن هذه «لا تغطي أكثر من 70 إلى 80% من فعالية الأدوية الأساسية»، بحسب هارون. مع ذلك تبقى تلك الخيارات أهون من فقدان الأدوية بالمطلق، كما حصل خلال أزمة كورونا، وكما يجري اليوم في علاجات السرطان، حيث هناك «نقص رهيب في أدويتهم وعلاجاتهم»، الأمر الذي بات يؤثر على حياتهم لأن تأخير العلاج عن موعده أو توقفه يعني تراجع حال المريض، على ما يقول «رئيس جمعية باربرا نصار» هاني نصار.
هجرة جماعيّة من المستشفيات
بحسب الأرقام المعلنة، فإن نحو 2500 طبيب هاجروا منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية. هذا الرقم يشمل فقط من استحصلوا على إفادات من نقابة الأطباء، فيما هناك عدد آخر «منيح»، يقول نقيب الأطباء في بيروت شرف أبو شرف، هاجر من دون أن يطلب شيئاً، وعُرفت أخبار هجرتهم «بالتواتر»، وهؤلاء لا أرقام توضح حجم هجرتهم.
يميّز أبو شرف بين نوعين من المهاجرين: «مهاجرون إلى دول الخليج في ما يمكن أن نسميه نصف هجرة، والمهاجرون إلى الدول الأوروبية وأميركا مع عائلاتهم، وهذه الهجرة الأخطر». ويوضح أن الهجرة تشمل المستشفيات الجامعية الكبرى. ومن الأمثلة على ذلك هجرة 150 طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت وحوالى 100 من أوتيل ديو و100 آخرين من مستشفى الروم الجامعي. أما الأخطر في هذه الأرقام، فيكمن في «نوعية» المهاجرين، إذ إن غالبيتهم من «ذوي الكفاءة وأصحاب الاختصاصات الدقيقة».
«جيل متل ما هو»، هذا ما يقوله الوزير السابق، الدكتور محمد جواد خليفة، مشيراً إلى أن المستشفيات الجامعية تفقد اليوم «الكفاءات والأساتذة، وهذا ما يؤسس على المدى البعيد لفجوة في القطاع الصحي الاستشفائي».
«الفئة الأخطر» من المهاجرين، يقول أبو شرف، من جرّاحي الدماغ إلى جرّاحي الشرايين والعظام وقلب الأطفال وأطباء غسيل الكلى والمختبرات والأشعة. وفي هذا السياق، يوضح أن «في لبنان 10 جراحين لقلب الأطفال، هاجر منهم أربعة أحدهم يُعدّ كبير الجراحين». الأمر نفسه ينطبق على جراحي الدماغ، إذ يشير خليفة إلى هجرة «كبير الجراحين في لبنان والشرق الأوسط» إلى دبي. هذه حقيقة بدأ يعيشها القطاع دفعته إلى دخول مرحلة «استعارة» المستشفيات الأطباء من بعضها لتعويض النقص!
وكما الأطباء، كذلك الحال بالنسبة إلى الممرّضين الذين تخطّى عدد من هاجروا منهم الـ2000، و«النزف ما زال مستمراً بالوتيرة نفسها بسبب عدم تبدّل الظروف»، على ما تقول نقيبة الممرضات والممرضين ريما ساسين قازان، لافتة إلى أن معظم المهاجرين «من فئة الممرضين المجازين وذوي الخبرة في المهنة، لأن طلبات العمل في الخارج تشترط هذا المستوى العلمي ومستوى عالياً من الكفاءات. وغياب هؤلاء يؤثر سلباً على الوضع في المستشفيات التي لا تستطيع الاستمرار بجهود الممرضين الذين يتخرّجون سنوياً من دون خبرة أو الممرضين من فئة الشهادة المهنية أو الممرضين المساعدين». أما الأخطر من ذلك، فهو «تداعيات تلك الهجرة على جودة العناية التمريضية وسلامة المريض»، بعدما تدنّت نسبة الممرضات والممرضين الذين يعتنون بالمرضى إلى «ممرض واحد لكل 20 مريضاً».
وبسبب ذلك النزف، تعمل المستشفيات على إقفال بعض الأقسام أو دمجها مع أقسامٍ أخرى، أضف الى ذلك التخفّف من الخدمات الطبية، إذ يؤكد أبو شرف أن نسبة العمليات التي تُجرى في المستشفيات خفّت بنسبة 50% «بسبب الهجرة أولاً ونقص المستلزمات تالياً»، ويتم الاكتفاء اليوم بالعمليات الطارئة أو الخدمات الطبية الطارئة، أما تلك الباردة «فعلى لوائح الانتظار»، يقول أبو شرف.